.[سورة الشورى: آية 26].
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)}.
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يستجيب لهم، فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى:
{وَإِذا كالُوهُمْ} أي يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلا، أو إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم. وقيل: الاستجابة: فعلهم، أي يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها
{وَيَزِيدُهُمْ هو مِنْ فَضْلِهِ} على ثوابهم. وعن سعيد بن جبير: هذا من فعلهم: يجيبونه إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه، ثم قرأ
{وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ}،
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا}. اهـ.
.قال ابن الجوزي:
قوله تعالى:
{حم} قد سبق تفسيره المؤمن.قوله تعالى:
{عسق} فيه ثلاثة أقوال:أحدها: أنه قَسَمٌ أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.والثاني: أنه حروف من أسماء؛ ثم فيه خمسة أقوال:أحدها: أن العين عِلْم الله، والسين سناؤه، والقاف قُدرته، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن.والثاني: أن العين فيها عذاب، والسين فيها مسخ، والقاف فيها قذف، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.والثالث: أن الحاء من حرب، والميم من تحويل مُلك، والعين من عدوّ مقهور، والسين استئصال بسِنين كسِنيّ يوسف، والقاف من قُدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء.والرابع: أن العين من عالم، والسين من قُدُّوس، والقاف من قاهر، قاله سعيد بن جبير.والخامس: أن العين من العزيز، والسين من السلام، والقاف من القادر، قاله السدي.والثالث: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.قوله تعالى:
{كذلكَ يُوحِي إِليكَ} فيه أربعة أقوال:أحدها: أنه كما أوحيتُ
{حم عسق} إلى كلِّ نبيّ، كذلك نوحيها إليك، قاله أبو صالح عن ابن عباس.والثاني: كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى مَنْ قَبْلَكَ، رواه عطاء عن ابن عباس.والثالث: أن
{حم عسق} نزلت في أمر العذاب، فقيل: كذلك نُوحِي إليكَ أن العذاب نازلٌ بمن كذَّبك كما أوحينا ذلك إلى مَنْ كان قَبْلَكَ، قاله مقاتل.والرابع: أن المعنى: هكذا نوحي إليكَ، قاله ابن جرير.وقرأ ابن كثير:
{يُوحَى} بضم الياء وفتح الحاء.كأنه إذا قيل: مَن يوحي؟ قيل: الله.وروى أبان عن عاصم:
{نوحي} بالنون وكسر الحاء.
{تَكادُ السَّماوات يَتَفَطَّرْنَ} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة:
{تكاد} بالتاء
{يَتَفَطَّرْنَ} بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها.وقرأ نافع، والكسائي:
{يكاد} بالياء
{يَتَفَطِّرْنَ} مثل قراءة ابن كثير.وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم:
{تكاد} بالتاء
{يَنْفَطِرْنَ} بالنون وكسر الطاء وتخفيفها، أي: يَتَشَقَّقْنَ
{مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي: من فوق الأَرضِين من عَظَمة الرحمن؛ وقيل: من قول المشركين:
{اتخذ الله ولدًا}. ونظيرها التي في [مريم: 90].
{والملائكةُ يسبِّحونَ بحمد ربِّهم} قال بعضهم: يصلُّون بأمر ربِّهم؛ وقال بعضهم: ينزِّهونه عمّا لا يجوز في صفته
{ويَستغفرون لِمَنْ في الأرض} فيه قولان.أحدهما: أنه أراد المؤمنين، قاله قتادة، والسدي.والثاني: أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين، فلمّا ابتُليَ هاروت وماروت استغفروا لِمَن في الأرض.ومعنى استغفارهم: سؤالهم الرِّزق لهم، قاله ابن السائب.وقد زعم قوم منهم مقاتل أن هذه الآية منسوخة بقوله:
{ويَستغفرون للذين آمنوا} [غافر: 7] وليس بشيء، لأنهم إنَّما يَستغفرون للمؤمنين دون الكفار، فلفظ هذه الآية عامّ، ومعناها خاصّ، ويدل على التخصيص قوله:
{ويستغفرون للذين آمنوا} [غافر: 7] لأن الكافر لا يستحق أن يُستغفَر له.قوله تعالى:
{والذين اتَّخَذوا مَنْ دونه أولياء} يعني كفار مكة اتَّخَذوا آلهة فعبدوها من دونه
{اللهُ حفيظٌ عليهم} أي: حافِظٌ لأعمالهم ليجازيَهم بها
{وما أنت عليهم بوكيل} أي: لم نوكِّلْكَ بهم فتؤخَذَ بهم. وهذه الآية عند جمهور المفسرين منسوخة بآية السيف، ولا يصح.قوله تعالى:
{وكذلك} أي: ومثل ما ذكرنا
{أوحينا إِليك قرآنا عربيًّا} ليفهموا مافيه
{لِتُنْذِرَ أُمَّ القرى} يعني مكة، والمراد: أهلها،
{وتُنْذِرَ يومَ الجَمْعِ} أي: وتُنذِرهم يوم الجمع، وهو يوم القيامة، يَجمع اللهُ فيه الأوَّلِين والآخرِين وأهل السماوات والأرضِين
{لا ريب فيه} أي: لا شكَّ في هذا الجمع أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرَّقون، وهو قوله:
{فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير}.ثم ذكر سبب افتراقهم فقال:
{ولو شاء اللهُ لجعلهم ًامَّةً واحدةً} أي: على دين واحد، كقوله:
{لَجَمَعَهُمْ على الهُدى} [الأنعام: 35]
{ولكن يُدْخِلُ مَنْ يشاء في رحمته} أي: في دينه
{والظّالمون} وهم الكافرون
{مالهم من ولِيّ} يدفع عنهم العذاب
{ولا نصيرٍ} يمنعهم منه.
{أمِ اتَّخَذوا مِنْ دُونِه} أي: بل اتخذ الكافرون من دون الله
{أولياء} يعني آلهة يتولَّونهم
{فاللهُ هو الوليُّ} أي: وليُّ أوليائه، فليتَّخذوه وليًّا دون الآلهة؛ وقال ابن عباس: وليُّك يا محمد ووليُّ من اتَّبعك.قوله تعالى:
{وما اختلفتم فيه من شيء} أي: من أمر الدِّين؛ وقيل: بل هو عامّ
{فحُكمه إِلى الله} فيه قولان.أحدهما: علمه عند الله.والثاني: هو يحكُم فيه.قال مقاتل: وذلك أن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم، فقال الله: أنا الذي أحكُم فيه
{ذلكم اللهُ} الذي يحكُم بين المختلفين هو
{ربِّي عليه توكلت} في مهمّاتي
{وإليه أُنيب} أي: أرجِع في المَعاد.
{فاطرُ السماوات} قد سبق بيانه [الأنعام: 14]،
{جعل لكم من أنفُسكم} أي: من مِثل خَلْقكم
{أزواجًا} نساء
{ومن الأنعام أزواجًا} أصنافًا ذكورًا وإناثًا، والمعنى أنه خلق لكم الذَّكر والأنثى من الحيوان كلِّه
{يذرؤكم} فيها ثلاثة أقوال:أحدها: يخلُقكم، قاله السدي.والثاني: يُعيِّشكم، قاله مقاتل.والثالث: يكثِّركم، قاله الفراء.وفي قوله (فيه) قولان.أحدهما: أنها على أصلها، قاله الأكثرون.فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال.أحدها: أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدم ذكر الأزواج، قاله زيد بن أسلم.فعلى هذا يكون المعنى: يخلُقكم في بطون النساء، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة، فقال: يخلُقكم في الرَّحِم أو في الزَّوج، وقال ابن جرير: يخلُقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيِّشكم فيما جعل لكم من الأنعام.والثاني: أنها ترجع إلى الأرض، قاله ابن زيد؛ فعلى هذا يكون المعنى: يذرؤكم فيما خلق من السماوات والأرض.والثالث: أنها ترجع إلى الجَعْل المذكور؛ ثم في معنى الكلام قولان.أحدهما: يعيِّشكم فيما جعل من الأنعام، قاله مقاتل.والثاني: يخلُقكم في هذا الوجه الذي ذكر مِنْ جَعْلِ الأزواج قاله الواحدي.والقول الثاني: أن (فيه) بمعنى (به)؛ والمعنى يكثرِّكم بما جعل لكم، قاله الفراء والزجاج.قوله تعالى:
{ليس كمثِّله شيء} قال ابن قتيبة: أي ليس كَهُوَ شيء، والعرب تُقيم المِثْلَ مُقام النَّفْس، فتقول: مِثْلي لا يُقال له هذا، أي: أنا لا يُقال لي هذا.وقال الزجاج: الكاف مؤكِّدة، والمعنى: ليس مِثْلَه شيء، وما بعد هذا قد سبق بيانه [الزمر: 63] [الرعد: 26] إلى قوله:
{شَرَعَ لكم} أي: بيَّن وأوضح
{من الدِّين ما وصَّى به نُوحًا} وفيه ثلاثة أقوال:أحدها: أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله قتادة.والثاني: تحريم الأخوات والأُمَّهات، قاله الحكم.والثالث: التوحيد وترك الشِّرك.قوله تعالى:
{والذي أَوحينا إِليكَ} أي: من القرآن وشرائع الإِسلام قال الزجاج: المعنى: وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى وقوله:
{أَن أَقيموا الدِّين} تفسير قوله:
{ما وصَّينا به إِبراهيمَ وموسى وعيسى}، وجائز أن يكون تفسيرًا ل
{ما وصَّى به نوحًا} ولقوله:
{والذي أَوحينا إِليك} ولقوله:
{وما وصَّينا به إِبراهيم وموسى وعيسى}، فيكون المعنى: شرع لكم ولِمَن قبلكم إقامة الدِّين وترك الفُرقة، وشرع الاجتماع على اتِّباع الرُّسل وقال مقاتل:
{أن أَقيموا الدِّين} يعني التوحيد
{ولا تتفرَّقوا فيه} أي: لا تختلفوا
{كَبُرَ على المشركين} أي: عَظُمَ على مشركي مكة
{ما تَدْعوهم إليه} يا محمد من التوحيد.قوله تعالى:
{اللهُ يَجتبي إليه} أي: يَصطفي من عباده لِدِينه
{مَنْ يَشاء ويَهدي} إِلى دِينه
{من يُنيبُ} أي: يَرجع إِلى طاعته.ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاهم بترك الفُرقة، فقال:
{وما تفرَّقوا} يعني أهل الكتاب
{إلاَّ مِنَ بَعْدِ ما جاءهم العِلْمُ} فيه ثلاثة أقوال.أحدها: من بعد كثرة عِلْمهم للبغي.والثاني: من بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال.والثالث: من بعد ما جاءهم القرآن، بغيًا منهم على محمد صلى الله عليه وسلم.
{ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربِّك} في تأخير المكذِّبين من هذه الأُمَّة إلى يوم القيامة،
{لَقُضِيَ بينَهم} بإنزال العذاب على المكذِّبين
{وإِنَّ الذين ًاورثوا الكتاب} يعني اليهود والنصارى
{مِنْ بعدِهم} أي: من بعد أنبيائهم
{لفي شكٍّ منه} أي: من محمد صلى الله عليه وسلم.قوله تعالى:
{فلذلك فادْعُ} قال الفراء: المعنى: فالى ذلك، تقول: دعوتُ إلى فلان، ودعوت لفلان، و
{ذلك} بمعنى (هذا)؛ وللمفسرين قولان:أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن السائب.والثاني: أنه التوحيد، قاله مقاتل.قوله تعالى:
{ولا تَتَّبِعْ أهواءهم} يعني: أهل الكتاب، لأنهم دعَوه إلى دينهم.قوله تعالى:
{وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بينَكم} قال بعض النحويِّين المعنى: ًامِرْتُ كي أَعْدِلَ.وقال غيره المعنى: أُمِرْتُ بالعَدْل.وتقع
{أُمِرْتُ} على (أن)، وعلى (كي) وعلى (اللام) يقال أُمِرْتُ أن أعدل، وكي أعدل، ولأعدل.ثم في ما أُمِرَ أن يَعْدِلَ فيه قولان.أحدهما: في الأحكام إذا ترافعوا إليه.والثاني: في تبليغ الرسالة.قوله تعالى:
{اللهُ ربُّنا وربُّكم} أي: هو آلهنا وإن اختلفنا، فهو يجازينا بأعمالنا، فذلك قوله:
{لنا أعمالُنا} أي: جزاؤها.
{لا حُجَّةَ بينَنا وبينكم} قال مجاهد: لا خصومة بينَنا وبينَكم.فصل:وفي هذه الآية قولان:أحدهما: أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار، وذلك قبل القتال، ثم نزلت آية السيف فنسختْها، قاله الأكثرون.والثاني: أن معناها: إن الكلام بعد ظُهور الحُجج والبراهين قد سقط بيننا، فعلى هذا هي مُحْكَمة، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله عن طائفة من المفسرين.قوله تعالى:
{والذين يُحاجُّونَ في الله} أي: يُخاصِمون في دِينه.قال قتادة: هم اليهود، قالوا كتابُنا: قَبْلَ كتابكم، ونبيُّنا قبل نبيِّكم، فنحن خيرٌ منكم.وعلى قول مجاهد: هم المشركون، طمعوا أن تعود الجاهلية.قوله تعالى:
{مِنْ بَعْدِ ما استُجيب له} أي: من بعد إجابة الناس إلى الإسلام
{حُجَّتُهم داحضة} أي: خصومتهم باطلة.قوله تعالى:
{اللهُ الذي أنزل الكتابَ} يعني القرآن
{بالحق} أي: لم ينزله لغير شيء
{والميزانَ} فيه قولان:أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس، وقتادة، والجمهور.والثاني: أنه الذي يوزَن به، حكي عن مجاهد.ومعنى إِنزاله: إلهامُ الخَلْق أن يَعملوا به، وأمرُ الله عز وجل إيّاهم بالإِنصاف.وسمِّي العَدْلُ ميزانًا، لأن الميزان آلة الإِنصاف والتسوية بين الخَلْق.وتمام الآية مشروح في [الأحزاب: 63].قوله تعالى:
{يستعجل بها الذين لا يؤمِنون بها} لأنهم لا يخافون ما فيها، إذْ لم يؤمنوا بكونها، فهم يطلبُون قيامها استبعادًا واستهزاء
{والذين آمنوا مشفِقون} أي: خائفون
{منها} لأنهم يعلمون أنهم مُحاسَبون ومَجزيُّون، ولا يدرون ما يكون منهم
{ويَعلمون أنَّها الحَقُّ} أي: أنها كائنة لا مَحالة
{ألا إِنَّ الذين يُمارونَ في السّاعة} أي: يخاصِمون في كونها
{لفي ضلال بعيدٍ} حين لم يتفكَّروا، فيَعلموا قدرة الله على إقامتها.
{اللهُ لطيفٌ بعباده} قد شرحنا معنى اسمه (اللطيف) في [الأنعام: 103] وفي عباده هاهنا قولان:أحدهما: أنهم المؤمنون.والثاني: أنه عامّ في الكُلّ ولطفُه بالفاجر: أنه لا يُهلِكه.
{يرزُق من يشاء} أي: يوسِّع له الرِّزق.